الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ القرءان جُمْلَةً واحدة} هذا من جملة اقتراحاتهم وتعنتاتهم أي: هلا نزّل الله علينا هذا القرآن دفعة واحدة غير منجم.واختلف في قائل هذه المقالة؛ فقيل: كفار قريش، وقيل: اليهود، قالوا: هلا أتيتنا بالقرآن جملة واحدة كما أنزلت التوراة، والإنجيل، والزبور؟ وهذا زعم باطل، ودعوى داحضة، فإن هذه الكتب نزلت مفرّقة كما نزل القرآن، ولكنهم معاندون، أو جاهلون لا يدرون بكيفية نزول كتب الله سبحانه على أنبيائه، ثم ردّ الله سبحانه عليهم، فقال: {كَذَلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} أي: نزلنا القرآن كذلك مفرّقًا، والكاف في محل نصب على أنها نعت مصدر محذوف، وذلك إشارة إلى ما يفهم من كلامهم، أي: مثل ذلك التنزيل المفرّق الذي قدحوا فيه، واقترحوا خلافه؛ نزلناه لنقوّي بهذا التنزيل على هذه الصفة فؤادك، فإن إنزاله مفرّقًا منجمًا على حسب الحوادث أقرب إلى حفظك له، وفهمك لمعانيه، وذلك من أعظم أسباب التثبيت، واللام متعلقة بالفعل المحذوف الذي قدّرناه.وقال أبو حاتم: إن الأخفش قال: إنها جواب قسم محذوف.قال: وهذا قول مرجوح.وقرأ عبد الله: {ليثبت} بالتحتية أي: الله سبحانه، وقيل: إن هذه الكلمة أعني: كذلك، هي من تمام كلام المشركين، والمعنى: كذلك أي: كالتوراة والإنجيل والزبور، فيوقف على قوله: {كذلك}، ثم يبتدأ بقوله: {لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} على معنى: أنزلناه عليك متفرّقًا لهذا الغرض.قال ابن الأنباري: وهذا أجود وأحسن.قال النحاس: وكان ذلك أي: إنزال القرآن منجمًا من أعلام النبوّة لأنهم لا يسألونه عن شيء إلاّ أجيبوا عنه، وهذا لا يكون إلاّ من نبيّ، فكان ذلك تثبيتًا لفؤاده وأفئدتهم.{وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} هذا معطوف على الفعل المقدّر أي: كذلك نزلناه ورتلناه ترتيلًا، ومعنى الترتيل: أن يكون آية بعد آية، قاله النخعي والحسن وقتادة.وقيل: إن المعنى بيناه تبيينًا، حكى هذا عن ابن عباس.وقال مجاهد: بعضه في إثر بعض.وقال السدّي: فصلناه تفصيلًا.قال ابن الأعرابي: ما أعلم الترتيل إلاّ التحقيق والتبيين.ثم ذكر سبحانه أنهم محجوجون في كلّ أوان مدفوع قولهم بكل وجه، وعلى كل حالة، فقال: {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جئناك بالحق وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} أي: لا يأتيك يا محمد المشركون بمثل من أمثالهم التي من جملتها اقتراحاتهم المتعنتة إلاّ جئناك في مقابلة مثلهم بالجواب الحق الثابت الذي يبطل ما جاءوا به من المثل ويدمغه ويدفعه.فالمراد بالمثل هنا السؤال والإقتراح، وبالحق: جوابه الذي يقطع ذريعته، ويبطل شبهته، ويحسم مادّته.ومعنى {أَحْسَنُ تَفْسِيرًا} جئناك بأحسن تفسير، فأحسن تفسيرًا معطوف على الحق، والاستثناء بقوله: {إِلاَّ جئناك} مفرّغ، والجملة في محل نصب على الحال أي: لا يأتونك بمثل إلاّ في حال إيتائنا إياك ذلك.ثم أوعد هؤلاء الجهلة، وذمهم، فقال: {الذين يُحْشَرُونَ على وُجُوهِهِمْ إلى جَهَنَّمَ} أي: يحشرون كائنين على وجوههم، والموصول مبتدأ، وخبره: أولئك، أو هو خبر مبتدأ محذوف أي: هم الذين، يجوز نصبه على الذمّ.ومعنى {يُحْشَرُونَ على وُجُوهِهِمْ} يسحبون عليها إلى جهنم {أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا} أي: منزلًا ومصيرًا {وَأَضَلُّ سَبِيلًا}، وأخطأ طريقًا، وذلك لأنهم قد صاروا في النار.وقد تقدّم تفسير مثل هذه الآية في سورة سبحان، وقد قيل: إن هذا متصل بقوله: {أصحاب الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا}.وقد أخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن عباس في قوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بالغمام وَنُزّلَ الملائكة تَنزِيلًا} قال: يجمع الله الخلق يوم القيامة في صعيد واحد: الجنّ والإنس والبهائم والسباع والطير وجميع الخلق، فتنشقّ السماء الدنيا، فينزل أهلها، وهم أكثر ممن في الأرض من الجنّ والإنس وجميع الخلق، فيحيطون بالجنّ والإنس وجميع الخلق، فيقول أهل الأرض: أفيكم ربنا؟ فيقولون: لا، ثم تنشق السماء الثانية، وذكر مثل ذلك، ثم كذلك في كلّ سماء إلى السماء السابعة، وفي كل سماء أكثر من السماء التي قبلها، ثم ينزل ربنا في ظلل من الغمام وحوله الكروبيون، وهم أكثر من أهل السماوات السبع والإنس والجنّ وجميع الخلق، لهم قرون ككعوب القثاء، وهم تحت العرش، لهم زجل بالتسبيح والتهليل والتقديس لله تعالى، ما بين إخمص قدم أحدهم إلى كعبه مسيرة خمسمائة عام، ومن ركبته إلى فخذه مسيرة خمسمائة عام، ومن فخذه إلى ترقوته مسيرة خمسمائة عام، وما فوق ذلك مسيرة خمسمائة عام.وإسناده عند ابن جرير هكذا قال: حدّثنا القاسم، وحدّثنا الحسين، حدّثني الحجاج بن مبارك بن فضالة عن عليّ بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران: أنه سمع ابن عباس، فذكره.وأخرجه ابن أبي حاتم بإسناد هكذا: قال: حدّثنا محمد بن عمار بن الحارث مأمول، حدّثنا حماد بن سلمة عن عليّ بن زيد به.وأخرج ابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل بسندٍ، قال السيوطي: صحيح، من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن أبا معيط كان يجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم بمكة لا يؤذيه، وكان رجلًا حليمًا، وكان بقية قريش إذا جلسوا معه آذوه، وكان لأبي معيط خليل غائب عنه بالشام، فقالت قريش: صبأ أبو معيط، وقدم خليله من الشام ليلًا، فقال لامرأته: ما فعل محمد مما كان عليه؟ فقالت: أشدّ ما كان أمرًا، فقال: ما فعل خليلي أبو معيط؟ فقالت: صبأ، فبات بليلة سوء، فلما أصبح أتاه أبو معيط، فحياه، فلم يردّ عليه التحية، فقال: مالك لا تردّ عليّ تحيتي؟، فقال: كيف أردّ عليك تحيتك، وقد صبوت؟ قال: أو قد فعلتها قريش؟ قال نعم، قال: فما يبريء صدورهم إن أنا فعلته؟ قال: تأتيه في مجلسه فتبزق في وجهه، وتشتمه بأخبث ما تعلم من الشتم، ففعل فلم يردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن مسح وجهه من البزاق، ثم التفت إليه فقال: «إن وجدتك خارجًا من جبال مكة أضرب عنقك صبرًا» فلما كان يوم بدر، وخرج أصحابه أبى أن يخرج، فقال له أصحابه: أخرج معنا، قال: وعدني هذا الرجل إن وجدني خارجًا من جبال مكة أن يضرب عنقي صبرًا، فقالوا: لك جمل أحمر لا يدرك، فلو كانت الهزيمة طرت عليه، فخرج معهم، فلما هزم الله المشركين، وحمل به جمله في جدود من الأرض، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم أسيرًا في سبعين من قريش، وقدم إليه أبو معيط، فقال: أتقتلني من بين هؤلاء؟ قال: «نعم بما بزقت في وجهي» فأنزل الله في أبي معيط: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ} إلى قوله: {وَكَانَ الشيطان للإنسان خَذُولًا}.وأخرج أبو نعيم هذه القصة من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وذكر: أن خليل أبي معيط، هو: أبيّ بن خلف.وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أيضًا في قوله: {يَوْمٍ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ} قال: أبيّ بن خلف وعقبه بن أبي معيط، وهما الخليلان في جهنم.وأخرج ابن مردويه عنه أيضًا في قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِيّ عَدُوًّا مّنَ المجرمين} قال: كان عدوّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أبو جهل، وعدوّ موسى قارون، وكان قارون ابن عمّ موسى.وأخرج ابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: قال المشركون: لو كان محمد كما يزعم نبيًا، فلم يعذبه ربه؟ ألا ينزل عليه القرآن جملة واحدة ينزل عليه الآية والآيتين، والسورة والسورتين، فأنزل الله على نبيه جواب ما قالوا: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ القرءان جُمْلَةً واحدة} إلى {وَأَضَلُّ سَبِيلًا}.وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس: {لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} قال: لنشدد به فؤادك ونربط على قلبك {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} قال: رسلناه ترسيلًا، يقول: شيئًا بعد شيء {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ} يقول: لو أنزلنا عليك القرآن جملة واحدة، ثم سألوك لم يكن عنده ما يجيب، ولكنا نمسك عليك، فإذا سألوك أجبت. اهـ.
|